يحلّ عيد العمال الأول في من أيار، ليجدد التأكيد على أهمية العمل في بناء المجتمعات وضمان الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. ويؤدي تحسين ظروف العمل وضمان الحقوق الأساسية للعمال دورًا محوريًا في تحقيق تنمية عادلة وشاملة. وتثبت الأدلة الدولية أن الإنتاجية والنمو لا يتحققان على نحو مستدام دون بيئة عمل تحفظ الكرامة وتؤمن العدالة في الفرص والمعاملة.
وتواجه المنطقة العربية تحديات متفاقمة في هذا الإطار، تتراوح بين ارتفاع نسب البطالة واتساع رقعة العمل غير المنظم، إلى محدودية الحماية الاجتماعية، وضعف المواءمة بين التعليم ومتطلبات السوق. ويفرض هذا الواقع ضرورة تفعيل الشراكة بين القطاع العام، والخاص، والمجتمع المدني، والمؤسسات التعليمية، من أجل معالجة هذه التحديات ببُعد استراتيجي وتشاركي.
تحديات سوق العمل عربياً
تشير بيانات منظمة العمل الدولية إلى أن معدل البطالة في الدول العربية بلغ 10.7% عام 2023، فيما تتجاوز بطالة الشباب 25% في عدة دول. ويترافق ذلك مع ارتفاع معدل العمل غير الرسمي، الذي يشمل ما بين 45% إلى 60% من القوى العاملة، ويعني عمليًا غياب الحماية القانونية والاجتماعية عن ملايين العاملين، خاصة في قطاعات الزراعة، والخدمات، والعمل الموسمي.
ويُسجل تفاوت كبير في الأجور وظروف العمل بين فئات العمال، ما يفاقم التفاوت الاقتصادي والاجتماعي. كما تؤثر هذه الهشاشة على فرص الاستقرار، وتضعف مناعة الاقتصاد أمام الأزمات.
الحد الأدنى للأجور والتحديات الاقتصادية
فيما يشكل الحد الأدنى للأجور أداة مركزية لتحقيق العدالة الاقتصادية، وتحسين قدرة العمال على تلبية احتياجاتهم الأساسية. وقد قررت الحكومة الأردنية رفع الحد الأدنى من 260 إلى 290 دينارًا اعتبارًا من يناير 2025. ورغم أهمية هذه الخطوة، إلا أنها تبقى غير كافية ما لم تترافق مع إصلاحات في ظروف العمل، وتعزيز أدوات الرقابة على الالتزام، وتوسيع نطاق الحماية لتشمل العمال في الاقتصاد غير الرسمي، الذين غالبًا ما يتقاضون أجورًا أقل من المقرر قانونًا.
ولا يمكن النظر إلى الأجور منفصلة عن التحديات الاقتصادية العامة، مثل ارتفاع كلفة المعيشة، وضعف النمو، وتراجع الاستثمارات، ما يفرض اعتماد سياسات متوازنة تراعي حاجات العمال، وإمكانات السوق، وضرورات التحفيز الاقتصادي.
الفجوة بين التعليم ومتطلبات السوق
تظهر فجوة واضحة بين ما تقدمه أنظمة التعليم والتدريب، وما تتطلبه أسواق العمل الحديثة من مهارات. وتعاني البرامج الحالية من ضعف في الصلة بالاقتصاد الرقمي، والطاقة المتجددة، والقطاعات التكنولوجية، مما يساهم في ارتفاع معدلات بطالة الخريجين.
وفي الأردن، تتسبب هذه الفجوة في اختلال هيكلي بين العرض والطلب في سوق العمل. وتبرز الحاجة إلى تطوير التعليم المهني بمقاربات مرنة، وبرامج عملية مرتبطة بالقطاع الخاص، بما يسمح بتجسير الفجوة وتحسين فرص التشغيل.
بيئة العمل والسلامة المهنية
تسجّل الأردن سنويًا ما يقارب 20 ألف إصابة عمل، ما يكشف عن ضعف الالتزام بمعايير السلامة في العديد من المواقع، خاصة في الإنشاءات والزراعة. ويُظهر هذا الواقع الحاجة إلى إصلاح ثقافة السلامة المهنية، وتكثيف التدريب، وتعزيز أدوات التفتيش، مع تحفيز المنشآت على تبنّي نظم حماية فعالة.
كما تُسجَّل حالات متعددة من العنف اللفظي والنفسي في بيئات العمل، لا سيما في المهن منخفضة الأجر أو ذات الطابع غير المستقر، مما يستدعي مراجعة أوسع لمعايير بيئة العمل، تتجاوز السلامة البدنية لتشمل الدعم النفسي والاجتماعي.
العمالة الوافدة: دور أساسي وحقوق غائبة
وتؤدي العمالة الوافدة دورًا رئيسيًا في دعم أسواق العمل العربية، وتشكل نسبة كبيرة من القوى العاملة في دول الخليج والأردن ولبنان، حيث تبلغ في بعض الدول أكثر من 40% من إجمالي العاملين. ومع ذلك، يواجه كثير من العمال الوافدين ظروفًا تفتقر إلى العدالة، تتراوح بين تدني الأجور، وغياب الضمان الاجتماعي، والتمييز في الوصول إلى الحقوق والخدمات.
ويُعد نظام الكفالة في بعض الدول عاملًا مقيّدًا لحركة العمال وحقوقهم، ويزيد من اعتمادهم الكامل على أصحاب العمل. ويبرز هنا التحدي المزدوج: الحاجة إلى سياسات تحمي حقوق العمال الوافدين دون الإضرار بالأنظمة الاقتصادية القائمة، وتطبيق معايير العمل الدولية التي تضمن الإنصاف والمساواة والكرامة الإنسانية.
توسيع مظلة الحماية الاجتماعية
تُظهر بيانات الضمان الاجتماعي في الأردن أن ما يقارب نصف العاملين غير مشمولين بالتأمينات، لا سيما في القطاعات غير المنظمة. ويجعل ذلك شريحة واسعة من القوى العاملة عرضة لمخاطر اقتصادية واجتماعية جسيمة. وتبرز هنا الحاجة إلى تعزيز السياسات الشاملة التي تسمح بانضمام تدريجي وميسر للعاملين غير النظاميين إلى أنظمة الحماية، بما يشمل التقاعد، التأمين الصحي، والتعويضات عن إصابات العمل.
ويتطلب هذا التوسع تنسيقًا وثيقًا بين الدولة وأصحاب العمل والمجتمع المدني، بما يضمن شمول الجميع دون المساس بمرونة السوق أو استقرار المؤسسات الصغيرة.
النهضة العربية (أرض): للمجتمع المدني دور هام
ويلعب المجتمع المدني دورًا مساندًا في معالجة فجوات سوق العمل وتعزيز التماسك الاجتماعي، من خلال رفع الوعي، وإجراء البحوث ورفع موجزات السياسات، وتيسير الحوار بين مختلف الأطراف.
بدورها؛ تقدّم منظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية (أرض) نموذجًا فاعلًا في هذا المجال من خلال جهودها التي تربط بين التعليم، والتمكين الاقتصادي وسبل العيش، والحماية الاجتماعية. ومن الأمثلة عليها مشاريع “صمّم” و”نحو المستقبل: استكشاف سبل العيش المحلية” و”الاستثمار في المستقبل”، التي تهدف إلى تطوير مهارات والمجتمع المدني لدعم الفرص الاقتصادية ودعم الشباب وربطهم بسوق العمل، عبر التدريب العملي، والدعم الفني، وتطوير المسارات المهنية. كما يضطلع منتدى التنمية البشرية والاقتصادية (هدف) التابع للمنظمة بدور مهم في جمع الجهات المعنية من القطاعين العام والخاص، والمؤسسات التعليمية، والمجتمع المدني، لتعزيز التفاهم حول الأولويات وتنسيق الجهود الوطنية نحو إصلاح سوق العمل.
في هذا السياق، تؤكد منظمة النهضة (أرض)على ضرورة عمل المجتمع المدني مع جميع القطاعات لاستكشاف فرص سبل عيش مستدامة لأعضاء المجتمع المحلي واللاجئين، ودعم الأعمال الناشئة في الأردن، مع أهمية تطوير قدرات الشباب، مما ينعكس على تنمية السوق والاقتصاد الوطني.
المضي قدماً
يثبت الواقع أن إصلاح سوق العمل يتطلب إرادة سياسية، واستثمارات استراتيجية في رأس المال البشري، وتعاونًا حقيقيًا بين مختلف الفاعلين. ولا يمكن ضمان استقرار اقتصادي أو عدالة اجتماعية دون إرساء بيئة عمل قائمة على الكفاءة والكرامة، مدعومة بحماية عادلة وشاملة لجميع العاملين، مواطنين ووافدين على حد سواء.
تقدم نشرتنا الإخبارية الرئيسية ملخصًا أسبوعيًا للمحتوى، بالإضافة إلى تلقي أحدث المعلومات حول الأحداث وكيفية التواصل مع المركز.