المدونات والمقالات

أزمة صناديق التقاعد في النقابات المهنية الأردنية: عجز مالي وغياب الإصلاح الجذري

خالد جمعة
ضابط أبحاث في مركز النهضة الاستراتيجي، التابع لمنظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية (أرض). عمل سابقًا باحثاً في منظمات المجتمع المدني، وحاصل على …

تلعب النقابات المهنية دورًا محوريًا في ترسيخ العدالة الاجتماعية وتعزيز الاستقرار الاقتصادي لأعضائها، فهي خط الدفاع الأول عن حقوق المهنيين الذي يقوم على تنظيم المهنة، وتحسين شروط العمل، وضمان العيش بكرامة لمنتسبيها.

وضمن أبرز أدوات النقابات نحو تحقيق هذه الأهداف، تأتي صناديق التقاعد باعتبارها ركيزة أساسية في منظومة الحماية الاجتماعية، إذ توفر دخلًا منتظمًا لأعضاء النقابة عند بلوغهم سن التقاعد أو في حالات العجز والوفاة، الأمر الذي يضمن لهم مستوى معيشيًا لائقًا بعد التوقف عن العمل.

وتزداد أهمية صناديق التقاعد في ظل التحولات الاقتصادية والمخاطر المرتبطة بسوق العمل، خاصة في المجالات التي تشهد تقلبات مهنية أو نسب بطالة مرتفعة بين الشباب. ففي هذا السياق، يغدو الحفاظ على استدامة هذه الصناديق، وكفاءتها، وعدالتها، مسؤولية وطنية تتجاوز حدود النقابات نفسها، لتصبح جزءًا من أمن المجتمع الاجتماعي والاقتصادي كاملًا.

غير أنّ السنوات الأخيرة تحديدًا قد شهدت عدة أزمات متفاقمة مرت بها صناديق التقاعد في النقابات المهنية الأردنية، وعلى رأسها نقابتا المهندسين والأطباء بما ينذر بانهيار ركيزة أساسية من ركائز الحماية الاجتماعية لمئات الآلاف من المهنيين. إذ تشكل هذه الأزمة تحديًا بنيويًا يتجاوز حدود الأرقام والعجز المالي، ليطال ثقة المنتسبين إليها، ويثير تساؤلات جوهرية حول فعالية أنظمة التقاعد النقابية وقدرتها على الاستمرار في تأمين حياة كريمة لهم بعد التقاعد.

ورغم اختلاف ظروف كل نقابة، تسلط القواسم المشتركة في التحديات البنيوية والمالية الضوء على خلل أوسع في أنظمة التقاعد المهني في الأردن، ما يستدعي تحليلًا معمقًا لإيجاد حلول مستدامة تضمن حقوق أعضاء النقابة وتحافظ على ديمومة هذه الصناديق.

 

أزمة مستمرة في صندوق “المهندسين”

 يُعد صندوق تقاعد نقابة المهندسين الأردنيين الأكبر من حيث عدد المشتركين والالتزامات، إذ يضم نحو 171 ألف مهندس. وحسب التقرير السنوي لصندوق التقاعد لعام 2024، يشهد هذا الصندوق عجزًا ماليًا متفاقمًا، إذ ارتفع العجز السنوي من أقل من مليون دينار عام 2014 إلى أكثر من 44 مليونًا في 2023. وعلى الرغم من تطبيق نظام معدل في 2024 ساعد على خفض العجز إلى 21.6 مليون دينار، إلا أن المشكلة الأساسية تظل قائمة.

وتأتي إيرادات الصندوق من عائدات التأمين الاجتماعي، وريع استثمار أموال وعقارات الصندوق والرسوم الإضافية وفق أحكام القانون لصالح الصندوق، والمبالغ التي تقرر الهيئة المركزية نقلها من صندوق النقابة إلى صندوق التأمين الاجتماعي، إلى جانب الإعانات والهبات التي يوافق عليها مجلس الوزراء.

ووفق البيانات، يعاني الصندوق وضعًا ماليًا هشًا مرده الاعتماد الكبير على الاشتراكات الجديدة في ظل انخفاض أعداد المنتسبين الجدد، وضعف الاستثمارات، بما يهدد قدرته على الوفاء بالتزاماته المستقبلية.

كما يُواجه الصندوق تحديًا آخر يتمثل في ارتفاع معدل البطالة بين المهندسين، الذي وصل إلى ما نسبته 40% عام 2022، ما دفع العديد من الشباب للعزوف عن الانتساب إليه أو دفع الاشتراكات، خوفًا من فقدان حقوقهم مستقبلًا جراء غياب الثقة في قدرة الصندوق على الصمود.

من جهتها، تواجه استثمارات صندوق التقاعد في نقابة المهندسين الأردنيين تحديات عدة، من أبرزها ضعف التنويع في هذه الاستثمارات وغياب استراتيجية توازن بين العوائد والمخاطر، ما انعكس في صورة أداء مالي محدود وزاد من هشاشة وضع الصندوق العام. وفي مقابلة مع صحيفة الرأي، أكد نقيب المهندسين المهندس عبدالله غوشة أن مجلس النقابة يعمل على إعادة ضبط آليات الاستثمار، من خلال دراسة إمكانية فصل إدارة ملف التقاعد عن ملف الاستثمار، وذلك أسوة بصندوق الضمان الاجتماعي، منتقدًا السياسات السابقة التي اعتمدت على بيع الأصول من أراضٍ وعقارات دون وجود خطة استثمارية واضحة. وتأتي هذه الجهود بوصفها جزءًا من خطة إصلاح شاملة تبنتها النقابة لمعالجة أزمة الصندوق، شكلت خلالها تسعة فرق عمل متخصصة أُوكلت إليها مهام إعداد توصيات فنية ومالية واقعية لإعادة هيكلة النظام التقاعدي وضمان استمراريته.

 

اختلالات متجذرة في صندوق “الأطباء”

 لا يختلف الوضع كثيرًا في صندوق تقاعد نقابة الأطباء، الذي يعاني من عجز تراكمي قارب 28.6 مليون دينار حتى نهاية عام 2024، في ظل الفجوة الجسيمة بين أملاك النقابة (310 آلاف دينار) والتزاماتها (46 مليون دينار).

وتُظهر القوائم المالية عجز الصندوق منذ أكثر من تسع سنوات عن صرف الرواتب التقاعدية كاملة لجميع مستحقيها، مع اقتصار صرفها على فئات معينة. وتعود أسباب الأزمة على نحو رئيسي إلى تحديات في التخطيط المالي وعدم ملاءمة بعض المعادلات التقاعدية الحالية للتغيرات المستمرة في معدلات الاشتراكات والمصروفات.

ويعتمد الصندوقان جزئيًا على الاشتراك الإلزامي، ولكن وفي ظل تفاقم الأزمات المالية وتأخر صرف الرواتب، أصبح هذا الإلزام محل تساؤل، خاصة مع فقدان عدد ملحوظ من الأطباء والمهندسين الشباب الثقة في استدامة صناديق التقاعد.

وبحسب تقديرات نقابة الأطباء، فإن عدد العاطلين عن العمل من الأطباء بلغ نحو 4 آلاف عام 2022، في حين يتخرج ما بين 2500 و3000 طبيب سنويًا، ما يجعل الاشتراك الإلزامي عبئًا لا يمكن للأعضاء الجدد تحمله إثر غياب ضمانات حقيقية.

 

تحديات مشتركة.. وضرورة بناء الثقة!

وفي خضم هذه الأزمة المالية الممتدة، يعاني صندوق تقاعد المهندسين من ضعف واضح في تنويع استثماراته، إذ تتركز قراراته الاستثمارية في مجالات محدودة، ما يُفقد محفظته الاستثمارية التوازن المطلوب بين العوائد والمخاطر.

وبينما تتجه معظم صناديق التقاعد حول العالم إلى تنويع محافظها بين أدوات متعددة لضمان الاستقرار وتحقيق عوائد مستدامة، يفتقر صندوق المهندسين إلى هذا النهج المتوازن، الأمر الذي يجعله أكثر عرضة لتقلبات السوق،  ويقلل من قدرته على تلبية التزاماته التقاعدية المتنامية على المدى الطويل.

تعكس أزمة صندوق تقاعد الأطباء تحديات هيكلية وبنيوية تتجاوز الضغوط المالية قصيرة الأجل لتشمل الجوانب المتعلقة بتصميم النظام، وآليات تمويله وإدارته. ومن دون اتخاذ خطوات إصلاحية فعالة واستباقية، تبقى احتمالات تراجع ثقة الأطباء فيه، خصوصًا من الجيل الشاب، قائمة، الأمر الذي قد يُهدد استدامة الصندوق على المدى البعيد.

وفي المحصلة؛ أصبحت الحاجة ملحة إلى إجراء تدخلات إصلاحية متكاملة تستند إلى الشفافية، وتعزيز الحوكمة، وتبني نموذج تشاركي أكثر مرونة وعدالة، يوازن بين حقوق الأطباء والمهندسين والتزاماتهم، ويعيد بناء الثقة في نظام التقاعد باعتباره جزءًا أساسيًا من الحماية الاجتماعية المهنية.

 

الحاجة إلى إصلاحات جذرية

 في ظل هذا الواقع المعقد، لم يعد اتخاذ تدابير جزئية أو تجميلية كافيًا، بل بات من الضروري التحرك نحو إصلاح شامل وعميق يتضمن: التحول إلى نظام أكثر مرونة مثل نظام المساهمات المحددة أو النظام الهجين، وتحسين كفاءة الإدارة وتنويع الاستثمارات للحد من المخاطر وتعظيم العوائد، ومراجعة إلزامية الاشتراك القانونية وإتاحة نماذج مرنة أكثر جذبًا للمشتركين، فضلًا عن إعادة تصميم المعادلات التقاعدية وفق أسس اكتوارية واقعية، وصولًا إلى ضرورة تشكيل لجنة إصلاح وطنية تضم النقابات، والحكومة وخبراء ماليين.

إن استعادة ثقة الأطباء والمهندسين الشباب هي الخطوة الحاسمة لضمان ديمومة هذه الصناديق، غير أن ذلك أمر لن يتحقق إلا عبر إجراءات شفافة، ومشاركة فاعلة في اتخاذ القرار، وإصلاحات حقيقية تعيد لهذه المؤسسات دورها الأساسي في صون الحقوق المهنية والاجتماعية لأعضائها.