المدونات والمقالات

عندما أصبحت غزة ساحة اختبار للإغاثة بلا مبادئ إنسانية

د. ماريا ديل مار لوجرونو
الدكتورة ماريا ديل مار لوجرونو ناربونا (حاصلة على الدكتوراة من جامعة كاليفورنيا، سانتا باربرا، 2007)، وهي مستشارة أولى في منظمة النهضة العربية للديمقر…

في 27 أيار/مايو 2025، أطلقت “مؤسسة غزة الإنسانية” أول عملية توزيع إغاثات واسعة النطاق، وتجاوز ما تبع ذلك أسوأ مخاوفنا حتى: فوضى عارمة، وصور مدنيين يركضون بلا هدف واضح في بحث يائس عن الطعام على مشارف معبر رفح، وإطلاق نيران الرشاشات في الهواء تحذيرًا من الاقتراب، استشهد ما لا يقل عن ثلاثة فلسطينيين وجُرح 48 آخرون خلال الفوضى الدائرة، كما انهار النظام. ليس ثمة تنسيق هادف، ولا عملية إغاثة تحافظ على كرامة المستفيدين، ولا أمان لمتلقي المساعدات، وبدلًا من الاسهام في استعادة الظروف الإنسانية، عمّقت هذه العملية أزمة غيابها.

غير أن هذا لم يكن مجرد فشل لوجستي فحسب، بل تجسيدًا لرؤية مُخزية وخطيرة للغاية، رؤية سبق أن دقّ خبراء العمل الإنساني، ومسؤولو الأمم المتحدة والفاعلون في المجتمع المدني ناقوس الخطر بشأنها. ومع ذلك، فقد استمر نموذج مؤسسة غزة الإنسانية، بدعم سياسي ومالي، وتجاهل متعمد للتحذيرات، وصمت متواطئ من المجتمع الدولي.

إن مؤسسة غزة الإنسانية جزء من استراتيجية أوسع، وهي استراتيجية تضع جهاز تحكم عسكري مخصخص في محل الأنظمة الإنسانية متعددة الأطراف والقائمة على الحقوق. ولا تتجذر هذه المساعدة في مبادئ الحياد أو النزاهة أو الاستقلال، إنما هي إغاثة أعيد تصميمها لتلائم قيود الحصار، يديرها متعاقدون من القطاع الخاص، وتحرسها شركات أمنية، أما تنسيقها فيجري بتوجيهات من القوة المحتلة.

لم تكن المشاهد المأساوية التي تكشفت في أيار/مايو غير متوقعة، بل كانت وقائع كارثة جرى التنبؤ بها قبلًا. في الواقع، وخلال عطلة نهاية الأسبوع التي سبقت هذا الاستهزاء بالعمل الإنساني، نشرت العديد من وسائل الإعلام الدولية الكبرى تحقيقات معمقة تؤكد أن مؤسسة غزة الإنسانية عبارة عن عملية مُخطط لها بعناية يقودها استراتيجيون عسكريون ومصالح تجارية في إسرائيل والولايات المتحدة، دون أي مغزى إنساني حقيقي. لم يتعرض وصول المساعدات الإنسانية للانهيار فحسب، بل أُعيدت هندسته، وجرى تسليعه واستغلاله.

وما زاد الطين بلة، نشر صورًا على مواقع التواصل الاجتماعي أظهرت أن بعض المواد الغذائية الموزعة في غزة كانت من إنتاج شركة “سوغات“، وهي شركة رائدة تتفاخر بعقودها مع الجيش الإسرائيلي. كما أفاد الصحفيون بتوزيع كميات ضئيلة من الطعام على الناس، بالكاد كانت تكفي العائلة الواحدة لأكثر من يومين. إن فكرة حصول الفلسطينيين المحاصرين، والنازحين، والمقصوفين، على حصص غذائية مصدرها شركة متأصلة في آليات الاحتلال ذاته، هي فكرة أكثر من ساخرة. كما أن الحصص الموزعة تُشير إلى أن هذا الأمر ليس بالإغاثة الإنسانية، بل إنه تقنين قسري وتبعية تُنفذ وراء ستار المساعدات.

ليست مؤسسة غزة الإنسانية جهة فاعلة إنسانية محايدة، بل أداة جيوسياسية مُغلفة بلغة مُحببة للمانحين حول “الكفاءة” و”الابتكار”. كانت هذه المساعدات تتعلق بإدارة البقاء على قيد الحياة تحت المراقبة. وبذلك، سخرت هذه المؤسسة من عقود من الجهود المبذولة لبناء نظام إنساني يهدف إلى حماية العالم من أسوأ ما في الإنسانية.

هذا ليس خطأً فرديًا، بل هو انهيار منهجي، سمح به صمت وتواطؤ من كان يفترض بهم أن يكونوا أكثر وعيًا. لقد أدانت الأمم المتحدة مرارًا وتكرارًا القيودَ الإسرائيليةَ على وصول المساعدات الإنسانية. لذا، فليس فحوى السؤال الآن ما الذي حدث في 27 أيار/مايو فقط، بل مفاده كيف وصلنا إلى هذا الوضع، وإلى أي مدى نحن على استعدادٍ للتغاضي عن هذا؟ هل سيواصل المجتمع الدولي التطبيع مع حصار غزة، ومع نظام يُحوّل المساعدات الإنسانية إلى نموذجٍ تجاري، والأزمات إلى سوقٍ للإذلال والنفوذ والربح؟

تتطلب هذه اللحظة  أكثر من مجرد الندم على “الدروس المستفادة”، إذ تتطلب المحاسبة، أي استعادة جماعية جريئة للعمل الإنساني بوصفه عملًا أخلاقيًا وسياسيًا.