مرّ أكثر من 560 يومًا على بدء الإبادة الجماعية في غزة، استشهد جراءها حتى هذه اللحظة أكثر من 50 ألف شخص، مع استشهاد أو إصابة ما لا يقل عن 100 طفل يوميًا منذ انتهاك الاحتلال الإسرائيلي اتفاق وقف إطلاق النار في آذار/مارس (لو بويدفان، 2025؛ الأونروا، 2025)، وفقًا لمسؤولين فلسطينيين. على مدار الأشهر الثمانية عشر الماضية، وعلى الرغم من الهجمات المتواصلة على منازلهم ومدارسهم ومستقبلهم، واصل الأطفال والشباب الفلسطينيون النضال من أجل حقهم في التعليم، فهم يدرسون تحت القصف، وفي مخيمات النزوح، وفي فصول دراسية مؤقتة، رافضين السماح للحرب بسرقة مستقبلهم.
ومع قيام مجلس الجمعية التاريخية الأمريكية (AHA) باستخدام حق النقض ضد قرار صدر في كانون الثاني/ يناير بإدانة تدمير دولة الاحتلال الإسرائيلي التعليم في غزة، صار الدفاع عن حق كل طفل في التعلم أمرًا ملحًا أكثر من أي وقت مضى. وليس الاستهداف الممنهج للمدارس والجامعات مجرد هجوم على البنية التحتية؛ بل هو هجوم على بقاء شعب –أي أداة تسعى إلى تدمير المنظومة التعليمية كأحد أوجه الإبادة الجماعية عن قصد. ووفقًا لأحدث تقرير صادر عن مجموعة التعليم، فإن “658 ألف طفل في سن الدراسة في غزة لا يحصلون حاليًا على تعليم رسمي” (مجموعة التعليم، 2025). علاوة على ذلك، “تعرض قرابة 95.2% من 564 مبنى مدرسيًا في غزة لأضرار، ويحتاج ما يقرب من 88% منها إلى إعادة بناء كبيرة قبل عودتها للعمل مجددًا”.
وكما تقول سحر، وهي معلمة فلسطينية من غزة، فإن: “التعليم هو أقوى سلاح يمكن أن يمتلكه الفلسطيني، ومن الواجب حمايته مهما كلف الأمر”.
مركز صمود التعليمي
تأسس مركز صمود التعليمي عام 2024، وهو يُحقق هذا الهدف تحديدًا. فمن خلال تقديم دروس تفاعلية مجانية عبر الإنترنت، يُوفر المركز للأطفال الفلسطينيين النازحين الاستقرار، والمعرفة والشعور بالانتماء للمجتمع. يُدير المركز فريق من المعلمين الفلسطينيين المتفانين، وقد وفّر المركز التعليم لأكثر من 700 طالب خلال الأشهر التسعة الماضية، قدم خلالها دروسًا شملت العديد من المواضيع بدءًا من المنهج الفلسطيني وصولًا إلى دورات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM)، واللغات، ومهارات الصحة النفسية وريادة الأعمال. أُنشئ هذا المركز ليكون وسيلة تمكين، وأصبح شريان حياة للعديد من الأطفال الفلسطينيين النازحين، سواءً كانوا في غزة أو ممن نزحوا إلى مصر أو أي مكان آخر.
بصفتي متطوعة مع “صمود”، فقد شهدتُ بنفسي مدى تفاني الأطفال الفلسطينيين النازحين، وحماسهم، وعزيمتهم في دراستهم، فعندما أفتح حاسوبي المحمول لبدء دروسنا كل أسبوع، تُثير أصواتهم فيّ شعورًا بالامتنان. أصبح صوت الطائرات المسيرة المألوف، الممتزج بالضحك، رمزًا غريبًا ليس في وسعي إنكاره للأمل والتمكين –أي ذلك الرمز الذي يلهمني من خلاله التفاني، والرعاية والتعاطف الذي يبديه هؤلاء الأطفال يوميًا، فهم ليسوا ضحايا حربٍ لا حول لهم ولا قوة؛ بل هم مشاركون فاعلون في رسم مستقبلهم.
هكذا تحدثت سحر!
ولكن، وبدلًا من سرد تجاربي الشخصية، أجد أن من الأنسب أن أروي هذه القصة من خلال كلمات شخص يُجسّد هذا النضال من أجل التعليم.
توضح سحر، وهي مُعلّمة فلسطينية وأم لطفلين، سبب تطوعها مُعلّمة للغة الإنجليزية في مركز صمود التعليمي. بعد نزوحها القسري إلى مصر خلال الإبادة الجماعية في غزة، لم تُرِد أن يُحرم أطفالها من التعليم، فسجّلتهم في برنامج صمود. ولما رأت تأثير دروس صمود على أطفالها، قررت أن تُوظّف شهادتها في اللغة الإنجليزية وأساليب التدريس لردّ الجميل لمجتمعها.
كانت الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني وحشية ومدمرة. لكن وسط هذه الوحشية، ثمة قصص أمل وصمود تستحق أن تُسمع، وهذا بالضبط ما ترويه قصة سحر، إذ تتحدث بشغف عن تجربتها في تدريس اللغة الإنجليزية، قائلةً: “بالنسبة لي، مثلت هذه التجربة نقلة نوعية، وقد قيّمتُ نجاحها من خلال الروابط العميقة التي بنيتها مع طلابي”. وأضافت: “بعد عدة أشهر من تدريس طلاب غزة، أشعر بفخر كبير بما حققناه –أي مساعدتهم على تعويض ما فاتهم من عام دراسي كامل، ورؤية تقدم ملحوظ في تعلمهم”.
ومع ذلك، بالنسبة لطلابها، كانت مواصلة نضالهم من أجل التعليم معركةً شاقة. أخبرتني سحر عن الصعوبات التي يواجهها الأطفال الفلسطينيون في الحصول على التعليم بسبب النزوح المستمر، وانعدام الاستقرار، ونقص الوصول إلى الإنترنت والموارد الأساسية. وقالت ” كانت حالة الطلاب النفسية هي التحدي الأكبر، إذ فقد الكثير منهم أفرادًا من عائلاتهم، ومعظمهم من الناجين من المجازر، بل إن بعضهم فقد زملاءه في الدراسة خلال الإبادة الجماعية”.
رغم هذه التحديات، كان للتعليم أثر إيجابي واضح على العديد من طلابها. حدثتني سحر عن خليل، وهو طالب في الصف الخامس، يحضر دروسها مع إخوته، فقالت: “في أحد الأيام، تواصلت والدته معنا لتعلمنا بمعاناته من اكتئاب حاد وضيق نفْسي. كانت العائلة تحضر الدروس من داخل خيمة في “مواصي خان يونس”، وهي منطقة تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة. طلبت الأم من سحر أن تتواصل مع الفتى شخصيًا من خلال مناداته باسمه أثناء الدروس، ما ساعد على استعادة ثقته بنفسه وتحفيزه. أبرز هذا الطلب التحديات النفسية الهائلة التي يواجهها طلابها، وعزّز أهمية تهيئة بيئة تعليمية داعمة ومتعاطفة”.
قوة التعليم بوصفه حقًا أساسيًا
مع نزوح 90% من الفلسطينيين في غزة، وعجز الكثير منهم عن الوصول إلى أبسط الموارد حتى، يواجه تعليم الأطفال عراقيل جمة (الأمم المتحدة، 2025). إلا أن هذا الأمر لا يقتصر على غزة وحدها، فقد أجبر تصاعد محاولات التطهير العرقي في الضفة الغربية 20,424 فلسطينيًا (وما زال العدد في ازدياد) على الفرار من منازلهم، بما في ذلك مخيم جنين للاجئين بأكمله تقريبًا (مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، 2025).
ومن دون منازل أو مدارس، يواجه الأطفال الفلسطينيون في جميع أنحاء فلسطين الآثار السلبية الناتجة عن تدمير المنظومة التعليمية -وهو جانب واحد فقط من الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة، فالتعليم حقٌّ ينبغي منحه لكل طفل، وهو معركة لا ينبغي نسيانها أو تجاهلها.
ختاماً؛ تؤمن المعلمة سحر “بأن التعليم المستمر ليس هو الطريق الصحيح فحسب، بل هو أيضًا أقوى سلاح يمكن أن يمتلكه الفلسطيني. فالتعليم، إلى جانب كونه حقًا أساسيًا، هو ما يُمكّن الفلسطينيين من التواصل مع العالم، وتأكيد هويتهم، والمطالبة بحقوقهم –شأنهم في ذلك شأن أي طفل آخر في العالم”.
المراجع
مجموعة التعليم، منظمة إنقاذ الطفل واليونيسف. شباط/فبراير 2025. “نظرة عامة على التعليم في عام 2024: حالة التعليم في غزة والضفة الغربية: الواقع الراهن وأولويات المستقبل”.
لو بواديفان، أوليفيا. 2025. “وكالات الأمم المتحدة المتعددة تدعو إلى تجديد عاجل لوقف إطلاق النار في غزة مع تزايد عدد القتلى”. رويترز. 7 نيسان/أبريل. متوفر على: https://www.reuters.com/world/middle-east/multiple-un-agencies-call-urgent-renewal-ceasefire-gaza-death-toll-mounts-2025-04-07/
مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا). 2025. “بيانات حول الهدم والتهجير في الضفة الغربية”. تاريخ الوصول: 8 نيسان/أبريل 2025.
الأمم المتحدة. 2025. “مطالبة بوقف إطلاق النار في غزة: تقييم احتياجات غزة، الأثر الإنساني والاجتماعي والاقتصادي لحرب غزة، استجابة الأمم المتحدة”. نيويورك: الأمم المتحدة. وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا). 2025.
وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا). 2025. “المفوض العام للأونروا، غزة: إنه لأمرٌ مُفجع. ما لا يقل عن 100 طفل يُقتلون أو يُصابون يوميًا في غزة”. متوفر على الرابط: https://www.unrwa.org/ar/newsroom/official-statements/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D9%88%D8%B6-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D9%84%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%86%D8%B1%D9%88%D8%A7-%D8%A5%D9%86%D9%87-%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8C-%D9%85%D9%8F%D9%81%D8%AC%D8%B9-%D9%85%D8%A7-%D9%84%D8%A7-%D9%8A%D9%82%D9%84-%D8%B9%D9%86-100-%D8%B7%D9%81%D9%84-%D9%8A%D9%8F%D9%82%D8%AA%D9%84%D9%88%D9%86-%D8%A3%D9%88-%D9%8A%D8%B5%D8%A7%D8%A8%D9%88%D9%86
تقدم نشرتنا الإخبارية الرئيسية ملخصًا أسبوعيًا للمحتوى، بالإضافة إلى تلقي أحدث المعلومات حول الأحداث وكيفية التواصل مع المركز.