المدونات والمقالات

إسكات الشهود: التكلفة العالمية للجرائم المرتكبة ضد الصحفيين

بقلم ماتيلد بيكارازي، متدربة في مركز النهضة الاستراتيجي

منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، قُتل أكثر من 270 صحفيًا وعاملًا إعلاميًا على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي، في محاولة واضحة لإخفاء الحقائق المروعة التي تتكشف في الأراضي الفلسطينية المحتلة عن أنظار العالم. ولا يدع الاستهداف العسكري المتعمد للصحفيين ومهنتهم مجالًا للشك في أن هذه الأعمال الإجرامية ليست مجرد حوادث أو أضرار جانبية تهدف إلى تحقيق ميزة عسكرية، بل هي محاولة متعمدة لإسكات كل من يدافع عن حقوق الفلسطينيين. ومع ذلك، ورغم الانتهاك الواضح للقانون الدولي والإنساني، وجمع الأدلة بدقة بما يضمن عدم نسيان هذه الجرائم، لم تكن هناك أي عواقب يتحملها المسؤولون عن جرائم الحرب هذه.

يُصنَّف الصحفيون، شأنهم شأن المدنيين والعاملين في المجال الطبي، وأولئك العاملين في المجال الإنساني والشخصيات الدينية، على أنهم أفراد غير مقاتلين بموجب القانون الإنساني الدولي. وبالتالي، لا تجوز مهاجمتهم أو كونهم جزءًا من الأعمال العدائية على نحو قانوني، وهم ليسوا أهدافًا عسكرية مشروعة، ويحق لهم التمتع بحماية خاصة. كما أن حماية الصحفيين متجذرة في المبدأ الدستوري، المشترك بين العديد من الدول، والذي يضمن حق الجمهور في الحصول على المعلومات، حتى في أوقات الحرب، بوصف هذا الحق عنصرًا أساسيًا من عناصر الديمقراطية. لذا، تُعد حمايتهم أمرًا بالغ الأهمية.

وكثيرًا ما أثبت اهتمام وسائل الإعلام أنه أداة فعّالة لرفع مستوى الوعي العام وكسب الدعم الدولي. ومن هنا، يقدم التاريخ أمثلة عديدة على صحفيين ساهموا إلى حد كبير في تشكيل كيفية رؤية الحروب وفهمها. ومن بين هذه الحالات “طريق الموت”، الذي وقع ليلة 26-27 شباط/فبراير 1991، عندما هوجمت القوات العراقية المنسحبة على الطريق من الكويت إلى البصرة، إذ كشفت صور شبكة (سي أن أن) التي بُثت على نطاق واسع عن مشاهد دمار شامل، ومركبات محترقة، ورماد وعواقب الحرب الدائرة حديثًا، ما صدم الرأي العام العالمي بشدة. 

مثالٌ آخرٌ جللٌ هو ما جرى في 5 آب/أغسطس 1992، وذلك عندما وصل الصحفي في الغارديان، “إد فوليامي”، برفقة طاقم تلفزيوني بريطاني، إلى أسوار معسكر اعتقال “أومارسكا” في البوسنة المُحاط بالأسلاك الشائكة، مصورين السجناء داخله. وقد قدّمت اللقطات دليلًا قاطعًا على “التطهير العرقي” الممنهج الذي مارسته القوات الصربية، وبُثّت هذه اللقطات عالميًا، وأثارت غضبًا واسع النطاق في المجتمع الدولي. 

بمرور الوقت، ازداد دور الإعلام في أوقات الحرب أهمية، إذ يتأثر الرأي العام وردود الفعل الدولية معًا وإلى حد ملحوظ بالصحفيين الذين يخاطرون بحياتهم من أجل توثيق الأحداث ونقلها من مناطق النزاع. في غزة، كان الصحفيون صوتًا وعينًا لشعب يعاني الحصار، فهم شهود تبشر تقاريرهم بالأمل في أن لا تبقى الحقيقة مخفية، وتُبرز من يعانون من الصراعات. وقد أثار توثيق جرائم الحرب المزعومة في غزة انتقادات دولية، إذ يُهدد كشف الصحفيين الفلسطينيين صورة إسرائيل العالمية، وفي ظل تزايد الضغط الشعبي، يُخاطر هذا الكشف بتقليص دعم الدول الغربية. وقد سمح عملهم للعالم بأن يشهد حقيقة الإبادة الجماعية على نحو مباشر، ما أحدث تحولًا كبيرًا في الوعي العام الدولي والتضامن خلال السنوات الأخيرة. ولهذا السبب، ونظرًا لأن القوات الإسرائيلية قد اعتبرتهم تهديدًا، كان ثمة حافز واضح لاعتقال الإعلاميين، أو إسكاتهم أو إبعادهم لتقييد تدفق المعلومات، وعزل الفلسطينيين في غزة، وإضعاف قدرتهم على التواصل.

ومع ذلك، وبموجب القانون الإنساني الدولي، يُعتبر الصحفيون مدنيين، كما أن استهدافهم المتعمد أمر غير قانوني وقد يمثل جريمة دولية خطيرة. وتشير الأدلة إلى أن هذه الهجمات ليست بالحوادث المعزولة، بل هي جزء من سياسة ممنهجة تقودها الدولة. وقد استُهدف الصحفيون بالاسم، وأصبحت عائلاتهم أيضًا ضحية عدة أعمال انتقامية. ومن الأمثلة المأساوية على ذلك مقتل شيرين أبو عاقلة، وهي مراسلة فلسطينية قُتلت على يد القوات الإسرائيلية عام 2022 أثناء تغطية اجتياح هذه القوات مدينة جنين في الضفة الغربية. كان إطلاق النار متعمدًا وموجهًا إلى الفريق الصحفي، على الرغم من عدم وجود أي مقاومة فلسطينية مسلحة في المكان. ومع وضوح هويتهم من خلال علامة “صحافة” المطبوعة على ستراتهم وخوذاتهم ومعداتهم، تشير التقارير إلى قتل الصحفيين في غزة والمنطقة بالقرب من المستشفيات والأماكن العامة والمناطق السكنية، وداخل المدارس والملاجئ حتى. تُعد عمليات القتل هذه شكلًا من أشكال العقاب الجماعي، الذي لا يهدف فقط إلى إسكات الشهود، ولكن إلى ردع السكان عن التعاون بدافع الخوف أيضًا. كان الصحفي أنس الشريف من بين القتلى بعد أن أصابت غارة جوية خيمته الصحفية قرب مستشفى الشفاء، وهو موقع كان ينبغي، بحكم طبيعته، أن يخضع للحماية والاستبعاد من أي استهداف عسكري. وقد أدى الخوف من أن يؤدي وجودهم إلى وقوع الهجمات إلى زيادة عزلة الصحفيين، وعزلهم عن المجتمعات التي يسعون إلى تمثيلها.

لقد دفع ما سبق المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إلى إدراج هذه الجرائم ضمن التحقيق الجاري في الوضع في دولة فلسطين. ومع ذلك، فإن واجب مقاضاة الأفراد المشتبه في ارتكابهم جرائم حرب ضد الصحفيين أو إصدار أوامر بارتكابها أمر مشترك بين جميع أطراف اتفاقيات جنيف، وليس إسرائيل وحدها. إن التحرك السريع مسؤولية جماعية وأساسية لمنع إسكات الأصوات الفلسطينية، وضمان ألا يكتب أولئك الذين يقمعون الحقوق الفلسطينية التاريخ بمفردهم. يتحمل مرتكبو الجرائم ضد الصحفيين في غزة مسؤولية جنائية فردية، إلا أن سلسلة القيادة تتحمل المسؤولية بنفس القدر جراء فشلها في منع هذه الانتهاكات، أو معاقبة مرتكبيها.

وقد ازدادت الحاجة الملحة لإنفاذ هذه المسؤوليات في العصر الحديث. فعندما صيغت اتفاقيات جنيف، أشارت المعايير التي تحمي العاملين في مجال الإعلام في المقام الأول إلى المحتوى المطبوع أو المسموع، والصحف، والأفلام، والتلفزيون. أما اليوم، ومع ظهور تقنيات الاتصال الفوري، فيمكن لأي شخص مشاركة المعلومات على مستوى العالم. وفي حين يُسهّل هذا انتشار الأخبار السريع، فإنه يجعل الجميع هدفًا محتملًا، الأمر الذي يجعل مقاضاة هذه الجرائم أكثر أهمية من أي وقت مضى. في غزة، أصبحت الشهرة على مواقع التواصل الاجتماعي بمثابة حكم إعدام، كما كان الحال مع الصحفي الفلسطيني صالح الجعفراوي. ومع ذلك، لا تقتصر الاعتداءات على الصحفيين على التهديدات الجسدية. فالحظر الخفي ومحو المواد من مواقع التواصل الاجتماعي يمثلان شكلًا رقميًا جديدًا من أشكال إسكات الصحفيين، إنه الشكل الذي “يقتلهم مرتين”.

وليست غزة حالة منفردة أو معزولة عن غيرها، إذ تتكشف آليات القمع والرقابة نفسها في مناطق الصراع الأخرى. ففي السودان، أجبر انهيار مؤسسات الدولة وغياب آليات الحماية أكثر من 400 صحفي سوداني على الفرار من البلاد، ما مهد الطريق لانتشارٍ مدمر لدعاية الحرب والمعلومات المضللة وخطاب الكراهية، وترك السكان دون إمكانية الوصول إلى معلوماتٍ تُنقذ حياتهم. وفي ظل مناخٍ من العزلة، الذي يعني فيه رفع الصوت مواجهة اتهاماتٍ جنائية، أصبحت الصحافة غير آمنة في المناطق التي تسيطر عليها القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في آن معًا. ويتفاقم تهميش الصحفيين السودانيين بسبب شبه استحالة دخول المراسلين الأجانب ومساهمتهم في العمل الصحفي. وفي أعقاب الأحداث الأخيرة، ومع سيطرة قوات الدعم السريع الكاملة على الفاشر، ازداد خنق المعلومات، كما يتضح من اعتقال الصحفي السوداني معمر إبراهيم على يد قوات الدعم السريع.

من فلسطين إلى السودان، تُخاض حربٌ خفية لا بالسلاح فحسب، بل من خلال السيطرة على المعلومات والتلاعب بالرأي العام. وبصفتنا حُماة التاريخ للأجيال القادمة، يقع على عاتقنا واجب الحفاظ على حقيقة الأحداث، ويبدأ ذلك بحماية الصحفيين الذين يُبرزون الحقيقة. فالدفاع عنهم ليس مجرد عمل تضامني، بل هو مقاومة النسيان، وهو أمرٌ لا غنى عنه في الحفاظ على المساءلة.